مصطفى الفقى يكتب: أحزان الشرق الأوسط!
ما زلت واثقًا من أن الأحداث التي جرت في السابع من أكتوبر 2023 وما بعدها من مجازر وجرائم إسرائيلية تعتبر كشفية وليست جديدة، نتيجة استمرار الاحتلال والجرائم في غزة وجنوب لبنان والحدود الأخرى مع إسرائيل. يجب التماس الحلول التي تسمح بحياة أفضل للناس في هذه المنطقة التي تعاني من الضغوطات والقمع. ومع قدوم إدارة أمريكية جديدة، يجب أن نكون واقعيين تجاه الأوضاع في فلسطين ولبنان. الجرائم التي ارتكبها نتنياهو ستترك تأثيرًا كبيرًا، فعلينا أن نبحث عن حلول.
أولًا: إن مساواة المحتل بمن احتلت أرضه هى مساواة ظالمة ومقارنة عبثية، فلولا استمرار الاحتلال ما بدأ العنف من جانب الكفاح الفلسطينى المسلح الذى قادته حركة المقاومة الإسلامية حماس، وقد يقول قائل إن أحداث السابع من أكتوبر 2023 كانت هى الشرارة التى انطلقت لتدمر كل ما حولها، ولست هنا فى موقع انتقادٍ لفكر حماس وأسلوبها وإن كانت لنا عليه ملاحظات من موقع الحرص على سلامة المقاومة الوطنية الملتزمة بشروط النضال حتى ولو خرج الطرف الآخر عن السياق كما تفعل إسرائيل بانتهاكها لكل قواعد القانون الدولى واستخفافها بمبادئ الشرعية الدولية لأنها ليست وحدها، لكنها تستند إلى دعم ضخم من الإمبراطورية الأمريكية على غرار ما كانت تدعم به الإمبراطورية الرومانية القوى المختلفة فى المناطق المتعددة فى صراعاتها حتى ارتبط اسم السلام بالفكر الرومانى وظهر تعبير (Pax-Romana).
ثانيًا: لقد أثارت الأحداث الأخيرة فى الشرق الأوسط شجونًا لا يمكن تغافلها وفى مقدمتها أن هوة الصراع قد اتسعت مهما قيل حول أدبيات السلام المرتقب وفرصه الضائعة، وأرجو ألا أوصف بالتشاؤم إذا قلت أن مخزونًا ثقيلًا من مظاهر العداء والكراهية قد تأصل فى الضمير العربى والإسلامى وأضحى الجميع اليوم على يقين من أن السلام قد يكون بعيدًا، لأنه لا يفرض بالقوة ولا يأتى بقرار أممى ولكنه ينبع من ضمير الشعوب وإحساسها المشترك بالصعاب التى عاشتها والظروف التى واجهتها وتشكلت منها جميعًا روح مختلفة تؤمن أن العنف والقهر يولدان مشاعر دفينة ذات رد فعل يصعب تجاهله أو إنكار وجوده، ولذلك فإننى أدعى هنا أن بعض المتأسلمين سوف يرون فيما حدث مبررًا قويًا لبعث الشعور بالمشروع الإسلامى على حساب المشروع القومى الذى تراجعت أركانه ومظاهره إلى حدٍ كبير، وأنا أظن وأرجو أن يكون ظنى فى غير محله أن جماعات متطرفة سوف تنشط من جديد على امتداد خريطة الشرق الأوسط وقد تطال المصالح الغربية عمومًا والأمريكية خصوصًا على نحو يعيد الأوضاع فى الشرق الأوسط إلى المربع الأول وهو ما كنّا نخشاه ونحذر من وقوعه إذ أن أجيالًا جديدة من الفلسطينيين والعرب بل والأحرار فى أنحاء العالم يدركون جيدًا أن العقلية الإسرائيلية ليست مهيأة لمفهوم التعايش المشترك وأن رواسب الماضى قد بدأت تطل على الخريطة من جديد، وأن التدمير الذى لحق بالشعبين الفلسطينى واللبنانى لم يقف عند حدود الدمار المادى فى الحجر، لكنه دمار نفسى أيضًا لدى البشر الذين أصبحوا يدركون أن الأمور لن تمضى على ما هى عليه، بل إن أجيالًا جديدة ولدت فى رحم الأحداث الأليمة سوف تفكر ذات يوم فى الثأر لتلك الفترات الحزينة من تاريخ المنطقة، وسيتذكر الجميع قتل الأطفال واغتيال القيادات وهدم المنازل وإبادة أعداد كبيرة من البشر لمجرد الشكوك فى احتمال وجود أحد العناصر المطلوبة بينهم!
ثالثًا: لقد حاول البعض تحريك البعد الدينى للصراع وهو أمر خطير فالقدس ليست قضية دينية فحسب بل هى مدينة محتلة بعد حرب 1967 ولا يجوز النظر إليها فى إطار المواجهات التاريخية والدفوع الدينية، ولا نظن أن من يعتقدون أن تديين الصراع فى الشرق الأوسط هو إيجابية لصالح الجانب العربى والإسلامى بل قد يكون حافزًا لاستثارة النوازع التاريخية فى شهوة القتل والتدمير التى أجادها بنيامين نتنياهو على نحو غير مسبوق، واستطاع أن يوظف خطاب الكراهية الذى لا ينطق إلا به ولا يعبر إلا عنه فى محاولة لتصدير مخزون العداء لدى الشعب اليهودى تجاه الشعوب الأخرى مستهدفًا فى كل الأحوال التعبير عن روح انتقامية لمعاناة اليهود تاريخيًا فى بعض مناطق العالم وتصدير رد فعلها إلى الشعب الفلسطينى الذى لم يكن فى يوم من الأيام طرفا فى نشأة الصراع، إذ إن حقيقة الأمر هى أن المسألة اليهودية هى جنين أوروبى، وليست أبدًا اكتشافًا شرق أوسطيًا، لكن دعاة الوطن اليهودى المزعوم هم الذين فكروا فى صياغة المشروع الصهيونى فى فلسطين اعتمادًا على ركيزة دينية مختلقة مع رفض الانصياع لصوت المجتمع الدولى والتعاطف الكاسح الذى حظى به الشعب الفلسطينى لدى الرأى العام الدولى وذلك فى مواجهة الدعم الأمريكى والحرص الشديد لدى واشنطن وحلفائها على أن تظل الدولة العبرية هى الكيان المدلل فوق الجميع! حتى تحولت إلى قلعة حقيقية للإرهاب والتخويف واستفزاز شعوب المنطقة فكان طبيعيًا أن يستيقظ الجميع ويدرك الكل أن المخطط الصهيونى الأول هو إقصاء أصحاب الأرض والتمتع باحتلالها المنفرد تحت رايات الكيان العبرى والدولة اليهودية.
رابعًا: لقد أثبتت أحداث غزة وبعدها جرائم إسرائيل فى جنوب لبنان بدءًا من ضاحية بيروت الجنوبية عددًا من الحقائق حيث اكتشف الجميع أن المنطقة تعج بعناصر ليست كلها على قلب رجل واحد، بل إن اغتيال القيادات الكبيرة فى حماس وحزب الله، وفى مقدمتها إسماعيل هنية وحسن نصر الله ويحيى السنوار إنما هى كلها شهادات على العنف المتأصل والإجرام السياسى الذى لا يفكر فى التعايش المشترك والاندماج بين شعوب المنطقة ذات يوم لايزال بعيدًا، فقد أضرت المنطقة أحداث العام الماضى كله وما جرى منذ ظهور اصطلاح طوفان الأقصى، فمعاناة شعب غزة وفئات من الشعب اللبنانى سوف تظل ناقوسًا يدق تسمع له الدنيا كلها مهما طال الزمن، لأن جرائم الإبادة الجماعية والتهجير القسرى وتعميم العقوبة هى كلها مظاهر لا تعبر عن روح العصر ولا عن حضارة الإنسان فى القرن الحادى والعشرين كما أنها لا تسقط بالتقادم لأنها أقرب إلى مفهوم القرصنة والبلطجة وسرقة الأرض وإفناء الشعوب وغيرها من مظاهر سادت فى العصور البدائية، ولقد أذهلنى تصريحًا لإحدى الشخصيات الغربية الكبيرة عندما قال إن إعمار غزة وعودتها إلى حياتها الطبيعية قد يستغرق ثمانين عامًا أو أكثر! وهو أمر يوضح حجم الكارثة التى تفوق النكبة والنكسة وتشدنا نحو غياهب اليأس أحيانًا ونوازع الانتقام أحيانًا أخرى.
• • •
إن أحزان الشرق الأوسط سوف تظل مرارة دائمة فى حلوقنا إلى أن ترعوى إسرائيل وتتوقف عن أساليبها العنصرية والعدوانية وإجراءاتها الدموية التى برعت فيها على امتداد قرن كامل من الزمان!