الشروق ترصد أهوال ومآسي الحرب بالمناطق المحررة من الدعم السريع في مدينة بحري بالسودان
– البشير: عشنا في ذل وهوان وأخفيت بناتي خشية اغتصابهن.. وأصيبنا بالملاريا من شرب المياه المالحة – الحاجة زينب: عناصر المليشيا قاموا بضربي وملاحقتي من منزل لأخر لطردي وأحفادي الستة – أميمة: “الدعم السريع” سرقت أموالنا.. وأصابوني بالرصاص في كتفي بدعوى أني أكذب
تصوير: سويد سيف الدين
في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، شن الجيش السوداني عملية عسكرية واسعة النطاق في العواصم الثلاثة “الخرطوم، الخرطوم – بحري، وأم درمان” ضد مليشيا الدعم السريع التي سيطرت على أجزاء كبيرة من تلك المناطق منذ بداية الحرب في أبريل عام 2023.
وللمرة الأولى منذ أكثر من عام ونصف تتبدل خريطة السيطرة على الأرض في السودان، لاسيما مدن العاصمة التي عززت المليشيا من تواجد قواتها بها للتحكم في رمانة ميزان الدولة السودانية لتكون نقطة انطلاق إلى بقية مدن البلاد، مستغلة وضعها قبل الحرب كجزء من القوات النظامية عبر مشاركة قواتها في تأمين العديد من المناطق الحيوية والاستراتيجية بالعاصمة لتفرض قبضتها الشديدة عليها منذ اللحظات الأولى للمعركة. من أبرز المدن التي سيطرت عليها مليشيا الدعم السريع، مدينة بحري الواقعة شمال العاصمة، وتعد نقطة انطلاق للعديد من المواقع العسكرية مثل “سلاح الإشارة ومنطقة الكدرو العسكرية”، كما تعد أكبر ثاني مدينة من حيث التعداد السكاني بعد الخرطوم، كما كانت تضم عدداً كبيراً من المصانع والشركات الخاصة والحكومية. وأطلق الجيش السوداني على تلك العملية العسكرية “العبور العظيم” حيث تقدمت قواته وعبرت جسر الحلفايا من مدينة أمدرمان غرباً إلى مناطق شمال مدينة بحري وعدد من المناطق المتاخمة لها تحت غطاء جوي مكثف من القوات الجوية السودانية.وتأتي أهمية جسر الحلفايا باعتباره مدخلاً من ناحية مدينة أمدرمان ومناطق وحدات وادي سيدنا وقاعدتها العسكرية وكذلك معهد المدرعات ولواء الدفاع الجوي والإسناد الهندسي، إلى جانب الكلية الحربية وكلية الهندسة بجامعة كرري. وفي يوليو الماضي، استهدفت مليشيا الدعم السريع الجسر من الناحية الشرقية لتحدث به أضرار بالهياكل الخرسانية، حسب ما ذكر بيان رسمي للقوات المسلحة السودانية، آنذاك.
ويؤدي جسر الحلفايا من ناحية مدينة بحري بشارع المعونة إلى مصفاة تكرير النفط بمنطقة الجيلي، وهي المصفاة التي لا يزال يسيطر عليها الدعم السريع ويسعى الجيش للتقدم نحوها وتحريرها. عقب تحرير تلك المناطق ومع استمرار العمليات العسكرية من قبل الجيش السوداني، قامت “الشروق” الأسبوع الماضي، بأول زيارة من نوعها لوسيلة إعلامية مصرية إلى تلك المناطق بدأت بالسفر من مدينة بورتسودان بولاية البحر الأحمر والتي تبعد أكثر من 12 ساعة عن مدن العاصمة المثلثة. بدأت الجولة الميدانية بالمناطق المحررة ومعايشة سير العمليات العسكرية التي تحيط بي لاسيما مع استمرار عمليات الجيش في الخرطوم، من مدينة أمدرمان إلى منطقة الحلفايا عبر الجسر الرابط بينهما على نهر النيل، مروراً بشارع المعونة وصولاً إلى منطقة أم القرى شمالاً والتي تبعد عن منطقة الحلفايا بحوالي 15 كيلو متر.
** جسر الحلفايا
قبل أشهر من الآن لم يكن عبور هذا الجسر أمراً ممكناً في ظل سيطرة أفراد الدعم السريع وآلياتهم العسكرية على الجزء الشرقي منه، لاسيما أنهم قاموا باستهداف هذا الجزء وتدميره لقطع الطريق على تقدم قوات الجيش نحو مناطق سيطرتهم.عند المرور بهذا الجسر، لن ترى سوى آثار الحرب القاسية التي تركت بصمتها البشعة على مشهد جمالي أبدع الله في صنعه، حيث نهر النيل والأشجار التي تحاوطك من كل حدب وصوب، فلن ترى إلا الآليات العسكرية المحترقة، وأكوام من التراب والرمال التي راكمتها أفراد المليشيا لمقاومة تقدم أفراد الجيش نحوهم، كما ستشاهد دخان القصف المدفعي من قبل الجيش على مناطق سيطرة المليشيا بالخرطوم وستسمع صوته القريب، كما سترى بعض من بقايا عظام، ربما عظام بشر أو عظام حيوانات تحللت وسكنت في المكان التي قتلت فيه.كما أن أثار تدمير الجسر لم تزول حتى الوقت الراهن، وسترى كيف أصبح عبارة عن جزئين من جانبه الأيمن عند المرور به، وفي المنتصف ركام من الصخور التي يتكون منها، وعلى الجزء الأخر السليم منه يتمركز ضباط وجنود القوات المسلحة لتأمينه، بعد المرور بمسافة قصيرة، تم توقيف السيارة التي كنت أستقلها من قبل هذا الارتكاز الأمني للاستفسار عن الهوية وسبب الجولة، وبعد إشهار التصريح العسكري الخاص بمرور الصحفيين، استكملت الجولة بالسيارة حتى وصلنا إلى منطقة الحلفايا.
** مآسي السودانيين على مدى 17 شهراً
عند أول نقطة للوصول بمنطقة الحلفايا، التقت “الشروق” بـ 6 أسر من مواطني منطقة “السامراب” في مدينة بحري، والذين منعتهم ظروفهم الإنسانية والمادية الصعبة للغاية من الفرار من المنطقة عندما سيطر عليها جنود وضباط مليشيا الدعم السريع، واضطروا للعيش بمنازلهم رغم مرارة الأوضاع والمذلة والمهانة التي عانوا منها طوال 17 شهراً، ولكن بعد تلك المعارك استطاعوا الهروب والعيش في أماكن سيطرت الجيش السوداني.تعيش تلك الأسر في عدة منازل مجاورة لبعضها البعض بحي الحلفايا، السيدات في منزل، والرجال في منزل أخر، تحت سيطرة الجيش حيث استقبلهم الجنود والضباط بعد رحلة هروبهم من منطقة “السامراب”، ووفروا لهم مكان آمن للعيش به وكذلك طعام ومياه تعويضاً عن أيام وليالي طويلة كان رغيف الخبز بها أمنية بعيدة المنال، والمياه الغير مالحة مجرد حلم.
استقبلتني تلك الأسر بترحاب حار وود شديد، وبدأ الحديث معهم بدون حواجز وكأنهم يرغبون في البوح بما يطبق على صدورهم منذ شهور، ورغم كل هذه المشاعر الدافئة إلا أن ملامحهم يكسوها الأسى، وأجسادهم هزيلة، وعيونهم حزنها عميق والدموع تتلألأ بها وكأنها تأبى عن السقوط الآن، ملابسهم بسيطة ولكن يبدو أن ما يسيطر عليهم هو الشعور بالراحة بعد المعاناة، كما ظهر جلياً العلاقة الوطيدة فيما بينهم كأسر رافقت بعضها البعض خلال مشوار تحمل ويلات الحرب في ظل معيشتهم لوحدهم في المنطقة بعد فرار كل أهاليها وتبقوا هم فقط ليواجهوا مصيرهم مع ذعر وقسوة الأيام والليالي في ظل الحرب من جانب، ومع وحشيه أفراد المليشيا عليهم من جانب آخر، ليتجسد المعنى الكامل لمعنى كلمة “المأساة”. “عندما اندلعت الحرب انقطع التواصل مع زوجي لفشله في الوصول إلينا أنا وبناتي ريان وهالة حيث كان بمنطقة الفتيحاب بمدينة أمدرمان التي كان يسيطر عليها الدعم السريع، وانقطعت المواصلات ولم يكن لدي أي أموال تساعدني على الخروج كما فعلت أسر عديدة هرباً من جحيم الحياة في الحرب”، هكذا قالت منى البشير البالغة من العمر 40 عاماً في بداية حديثها.
ثم أمسكت البشير بأطراف ثوبها وجففت دموعها الغزيرة، واستكملت حديثها: سيطر الدعم السريع على منطقتنا، ولم نعيش إلا في الذل والهوان، فمعاملتهم لنا سيئة للغاية، كانوا يمنعونا من الذهاب إلى السوق فلم يعد لدينا غذاء نسد به جوعنا، وكنا نعيش على كميات قليلة من القمح الذي كان يمنحنا إياه الجيران إذا توفر ونصنع منه وجبة العصيدة (وجبة سودانية) حتى المياه تم قطعها عن المنطقة فكنا نشرب مياه مالحة من البئر الموجود في المنزل حتى أصيبنا جميعاً بمرض الملاريا، وكان شراء الدواء وزيارة الطبيب أحلاما مستحيلة. خيم الصمت للحظات على منى والدموع لا زالت تنهمر من عيونها، ثم قالت: المليشيا اقتحمت منازلنا مرات عديدة وتعدوا علينا بالضرب وكانوا يقولون لنا “انتوا كلاب وطوابير للجيش” كما كانوا يمنعونا من الخروج مهما كان السبب. ثم أشارت بيدها إلى بناتها هالة وريان البالغات من العمر 16، و 18 عاماً، وقالت: “كنت أقوم بإخفاء بناتي تحت السرير”، كنت بخاف عليهن من خطفهن واغتصابهن من قبل أفراد المليشيا، فقد اقتحموا بيتي عدة مرات وفي كل مرة يسألوني “عندك بنات؟” فأجيب بأنني ليس لي أبناء مطلقاً، فكانوا يقومون بتفتيش المنزل ولكني كنت متوكلة فقط على رب العالمين وأجلس وأقرأ بصوت خافت سورة يس وأدعو الله أن يحمي بناتي من بطشهم.
هالة البالغة من العمر 16 عاماً، بريئة الملامح وهزيلة الجسد، قاطعت حديث والدتها وقالت: أمي كانت تقول لي أنا وشقيقتي ارقدوا تحت السرير وتقوم بوضع غطاء من القماش علينا طوال الليل، كنا نبكي من الخوف أن يرونا أو من أصوات الرصاص الذي نسمعه كل ليلة، وكنا نبكي حتى يغلبنا النوم. وسمعت أن أحد الجيران وهو رجل كبير في السن وفاقد لحاسة السمع، خلال عودته لمنزله وهو يحمل إحدى أطباق الطعام الذي تبرع به جاره له، قام أحد أفراد الدعم السريع بالنداء عليه وهو أصم، فلم يرد عليه، فقام بإطلاق الرصاص على رأسه حتى سقط قتيلاً، وتركوه ملقياً في طرقات الشارع وقاموا بوضع شوال على جثمانه حتى مر ولده بالشارع، فرأه وحمل جثته.
“توفت ابنتي خلال ولادتها أثناء فترة الحرب ولم نستطع إنقاذها، حيث أنجبت ولدين توأم، وتوفت هي وأحدهما، وتركت لي الرضيع الأخر بجانب 4 أحفاد أخرين، بلا عائل حيث تركهم والدهم أيضاً دون رحمه واختفى، حتى ابني الكبير فقدت التواصل معه منذ بداية الحرب وترك لي ابنه، فتحملت مسئولية 6 أطفال دون سند أو عائل ودون عائلة، فقضينا أيام كثيرة جوعى نتمنى حفنة قليلة من القمح”، هذا هو حال الحاجة زينب التي تبلغ من العمر 50 عاماً، الذي توفى زوجها قبل الحرب بسنوات وفقدت كل أحبائها فكانت أيقونة لتحمل وضع فوق طاقتها في ظل ظروف صراع مسلح لا يعرف معنى الرحمة.وتابعت : “كنا نأكل بليلة قمح مرة وربما مرتين في اليوم، لا نملك أكثر من ذلك لمدة 17 شهر، وكنت أعيش على تبرعات الجيران، كما لاحقني الدعم السريع من منزل لآخر ويقوم بطردي أنا وأحفادي حتى استقريت في منزل أحد الجيران تركه وسافر خارج البلاد، كنت استجديهم وأقول لهم أنا أربي أطفال أيتام ورضيع لم يحصل على رشفه لبن واحدة من أمه، فكانوا يتعدون على بالضرب ويصرون على طردي”.وفي خضم حديثها صرخ الطفل الرضيع وأجهش في بكاءه، فقامت بحمله على يدها وحاولت اسكاته، ثم استكملت قائلة: الطعام لم يكن متوفراً حتى لبن الأطفال لم أستطيع توفيره لحفيدي الرضيع فكنت أذهب للجيران من حين لآخر إذا سمح لي أفراد الدعم السريع بالخروج، للحصول على القليل من القمح لأقوم بخلطه بقليل من المياه وأطعمه “مديدة” (وجبة سودانية) وأضعها له في (ببرونة الرضاعة) تعويضاً له عن فقدانه للرضاعة الطبيعية من أمه.
ومضت قائلة: “كنا نعيش في الظلام بالليل، وفي طقس حار بالنهار، فالكهرباء تم قطعها عن المنطقة منذ بداية الحرب رغم محاولات الأهالي إصلاحها أكثر من مرة، حتى المياه لم تكن متوفرة كنت أشرب أنا والأطفال من المياه المالحة طوال تلك الأشهر”. أما عائشة الحفيدة، بنت الـ 11 عاماً، عيونها تتحدث عن ألمها وشرودها يعبر عن أهوال ما شاهدته خلال فترة الحرب، وحاولت التحدث معها فلم تتمكن من الحديث لإصابتها بصعوبة في النطق نتيجة صدمات فقدان الأم وأهوال المعيشة وسط نيران الدعم السريع، حسب ما أخبرتنا جدتها. حتى مصعب شقيقها ابن الـ 6 سنوات، الذي لا يختلف حاله عن شقيقته نظر بيأس وحزن شديد ووضع كفوف يداه الصغيرة على رأسه وقال بصوت خافت ” الدعامة قالوا لينا ما تطلعوا في الشوارع، ونفسي أمي ترجع” ثم غادر المكان وهو يبكي.بدورها، أشارت أميمة ذات الـ 35 عاماً في مستهل حديثها لـ “الشروق” إلى أعلى ذراعها الأيمن وهي تزيح ثوبها عنه وقالت: “ضربوني طلقة في كتفي لما قلت لأفراد من الدعم السريع معندناش عربيات” فكانوا يعتقدون أنني أكذب عليهم، ولكن نحن أسرة بسيطة، أنا ربة منزل وزوجي عامل في محطة بنزين ولا نملك سوى قوت يومنا، حتى القليل من الأموال التي كنا نملكها قاموا بسرقتها في الأيام الأولى من الحرب، وبعد اندلاعها فقد زوجي وظيفته حيث منعتنا المليشيا من الخروج من المنزل، فكنا نعتمد في المعيشة على الأموال التي يرسلها لي عمي المقيم في أمريكا وبعد انقطاع خدمات الاتصال والإنترنت عن المنطقة فقدت التواصل تماماً معه.واستكملت قائلة: كنا نأكل القمح فقط ونقوم بشرائه من السوق الذي يديره الدعم السريع حيث كانوا يبيعون لنا الدلو الصغير بـ 35 ألف جنية (ما يعادل 15 دولار) حتى طعمه كان مر للغاية، فقد كانوا يبيعون لنا القمح المحروق الذين سرقوه من المخازن، ولكن كنا مضطرين نأكله، فلا يوجد بديل.
** الحرب حولت بحري إلى مدينة مهجورة
غادرت وتركت تلك الأسر في حالة يرثى لها، على أمل أن تعود حياتهم لوضعها الطبيعي ويعيشون حياة كريمة عما قريب، واستكملت جولتي ومررنا بشوارع مدينة “الخرطوم – بحري” والتي كانت تكتظ بالسكان والسيارات قبل الحرب، لكنها تحولت إلى مدينة خاوية على عروشها بعد أن فر سكانها هرباً من المواجهات العسكرية تارة ومن بطش مليشيا الدعم السريع تارة أخرى، لتحكي أحيائها وشوارعها عن فظائع الحرب. اتجهت إلى منطقة أم القرى شمالاً قاصده سكان بقية المناطق التي تم تحريرها من قبضة الدعم السريع، وقام الجيش السوداني بنقلهم إلى مراكز إيواء آمنة.وخلال تلك المسافة التي بلغت ما يقرب من 15 كيلو متر، قطعتها بالسيارة في مدة زمنية اقتربت لـ 60 دقيقة، عبر امتداد شارع المعونة، لن ترى سوى مشاهد الدمار والخراب، فالمحلات التجارية مفتوحة الأبواب وليس بها أي مقتنيات أو بضاعة، وواجهاتها مكسرة بصورة عنيفة، والسيارات التي لم يتم سرقتها مترامية هنا وهناك في حالة متردية من التهشيم والرصاص المخترق هيكلها، أما المنازل التي هجرها ملاكها وساكنيها أثار القصف علامة بارزة على جدرانها، لاسيما أنه مع بدء الحرب اعتمدت المليشيا على خطة عسكرية قوامها اعتلاء أفراد القناصة على أسطح العمارات العالية حتى يستطيعوا مواجهة أي عمل عسكري على الأرض ويتحكموا بالمشهد العملياتي. بل حتى ملابس المواطنين ومقتنياتهم الشخصية البسيطة التي لم يتم نهبها، والتي لا تهم سوى أصحابها فقط، ملقاة على الأرض أمام أبواب المنازل مختلطة بالتراب والدماء التي جفت، في مشهد حزين ومؤلم للغاية.عند المرور على أبواب البيوت المهجورة منذ 17 شهراً، ومنها العمارات التي كان يتم تأجيرها بآلاف الدولارات، لن تسمع سوى صوت صراخ من وحشه الوحدة التي تعاني منها بعد هجران سكانها، وربما من وحشه ما عايشته وشاهدته تلك البيوت من قتل وسفك للدماء وتعذيب على يد مليشيا الدعم السريع.حتى محطات البنزين وتحويل الكهرباء للمنطقة تم تهشيم أجزاء كبيرة منها، وبقيت هياكلها في مكانها لتكون رمزاً لحطام الحرب.
** منطقة أم القرى شمال بحري
بعد قطع تلك المسافة التي مرت كسنوات من وحشة المشهد العام، وصلنا إلى مدرسة أم القرى شمال والتي تأسست عام 1983، لنسمع قصص العشرات من سكان المدينة الذين لم يستطيعوا الفرار من مناطقهم التي سيطرت عليها مليشيا الدعم السريع منذ اندلاع الحرب، لظروفهم الاجتماعية الصعبة، وبعد تقدم الجيش السوداني في محاور القتال استطاعوا الخروج لينجوا بأنفسهم. “تضم المدرسة حوالي 350 فرد من مناطق شرق وغرب سكة حديد الحلفايا، ومربع 8 بذات المنطقة، وقد جاءوا على 4 دفعات كما هناك 250 فرد في الطريق إليها، هكذا قال الحاج عادل النور أحد المواطنين ومشرف على مركز الإيواء. من جانبها، قالت الدكتورة سارة آدم النور طبيبة ومقيمة بمركز الإيواء : “نعاني من شح الدواء خاصة أدوية الغدة الدرقية والأمراض المزمنة مثل “ضغط الدم، والسكري” وهناك مرضى غير قادرين على الوصول إلى مراكز العلاج، وحتى الذين قمنا بمساعدتهم واستطاعوا الوصول إلى المركز الصحي بالمنطقة أبلغوهم أن الفحص الطبي والدواء بمقابل مادي، ولكن حتى مسكن الآلام غير متوفر.
وعادت الدكتورة سارة بذاكرتها إلى الخلف لتتذكر وهي غاضبة، قائلة: مليشيا الدعم السريع أخذوا الفتيات من الأهالي أمام أعيننا، ومن يعترضهم يقومون بالاعتداء عليه ضرباً، أو يقتلوه دون أن يرمش لهم جفن. وتابعت “حتى المياه الصالحة حرمونا منها واضطرينا لشرب المياه المالحة، فأصيب عدد كبير من الأهالي بأمراض الكلى والضغط، أما السوق كانوا يغلقوه ويفتحوه حسب رغبتهم، والأيام التي يكون فيها السوق مفتوح من الممكن أن يعتدوا علينا بالضرب ويسرقوا أموالنا ويأمرونا بالعودة إلى المنزل، ومن يبدي اعتراضه يعتقلوه حتى دفع الفدية مقابل فك آسره ومعظم الأسر لا تملك أي نقود”.
**العودة إلى منطقة الحلفايا
في طريق العودة إلى منطقة الحلفايا، مرت السيارة بالمركز الصحي للمنطقة وقمت بعمل جولة به لمعرفة وضعه فكانت الصدمة بأنه لا يقل بؤساً عن حال المدينة ومواطنيها، ولم أجد الطبيب المشرف عليه ولكن صادفت أحد الأطباء يدعى الدكتور أحمد باب الله، وقال لـ”الشروق” نحن طاقم طبي يضم 32 ما بين طبيب وممرض، وتم توقف العمل بالمركز في شهر مايو 2023، ولكن تم استئناف العمل به مرة أخرى في فبراير من العام الجاري، ونعمل على تقديم كل الخدمات رغم الظروف الصعبة التي نواجها خاصة في ظل انقطاع الكهرباء، كما نعاني من شح في الأدوية الخاصة بالطوارىء، أما الأدوية المنقذة للحياة متوفرة ولكن بكميات بسيطة، لاسيما في ظل ضغط توافد المرضى على المركز، خاصة الفترة الصباحية عقب عودة العديد من المواطنين بعد تقدم الجيش.ولا تزال المعارك العسكرية من قبل القوات المسلحة السودانية مستمرة حتى الوقت الراهن، في العاصمة المثلثة “الخرطوم، الخرطوم- بحري، وأم درمان”.